حديث من أتى عرافًا لم تقبل له صلاة أربعين يومًا،
وعَن بَعضِ أَزوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَالَ: مَن أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَن شَيءٍ لَم تُقبَل لَهُ صَلَاةٌ أَربَعِينَ لَيلَةً.
رواه أحمد (4/ 68)، ومسلم (2230).
شرح الحديث :
قوله صلى الله عليه وسلم "
من أتى عرافا"
قالوا :
ولا يُشترط لتحقيق قوله (من أَتَى عَرَّافًا أو كاهنًا فصَدَّقه بما يقول فقد كفر بما أُنْزِلَ على مُحَمَّد ) أن يذهب الإنسان ـ حقيقة ببدنه إلى العرَّاف في مكانه الذي هو فيه،
إذِ المقصود، النهي عن الذهاب إليه بأي وسيلة، سواء كان بالهاتف، أو عن طريق موقع تواصل، أو قراءة الأبراج في الصحف والمجلات، أو اتيان قارئة الفنجان ،
إتيان العراف كبيرة :
قال القرطبي : العرّاف هو الحازي والمنجِّم الذي يدَّعي الغيب، وهذا يدلّ على أن إتيان العرافين كبيرة،
وظاهره أن صلاته في هذه الأربعين تحبط وتبطل، وهو خارج على أصول الخوارج الفاسدة في تكفيرهم بالذنوب، وقد بيَّنا فساد هذا الأصل فيما تقدم، وأنه لا يحبط الأعمال إلا الردة.
وأما غيرها فالحسنات تبطل السيئات كما قال تعالى: {إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبنَ السَّيِّئَاتِ} وهذا مذهب أهل السنَّة والجماعة،
فليس معنى قوله لا تقبل له صلاة أن تحبط، بل إنما معناه - والله أعلم – أنَّها لا تقبل قبول الرضا وتضعيف الأجر.
لكنه إذا فعلها على شروطها الخاصة بها فقد برئت ذمّته من المطالبة بالصلاة وتُقصَى عن عهدة الخطاب بها، ويفوته قبول المرضي عنه وإكرامه وثوابه،
قلت. أما ابن حجر العسقلاني فقال :
وأما القبول المنفي في مثل قوله صلى الله عليه وسلم "من أتى عرافا لم تقبل له صلاة " فهو الحقيقي ، لأنه قد يصح العمل ويتخلف القبول لمانع ،
ولهذا كان بعض السلف يقول :لأن تقبل لي صلاة واحدة أحب إلي من جميع الدنيا قاله بن عمر، قال لأن الله تعالى قال" إنما يتقبل الله من المتقين"
تفسير تخصيص عدم قبول الصلاة أربعين يوما:
وقال القرطبي: وتخصيصه - صلى الله عليه وسلم - الأربعين بالذكر قد جاء في مواضع كثيرة من الشرع؛ منها: قوله في شارب الخمر لا تقبل له صلاة أربعين يومًا ،
وقوله والذي نفسي بيده، إنه ليجمع خلق أحدكم في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك ،
وقوله من أخلص لله أربعين ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه .
ومنه قوله تعالى: {وَإِذ وَاعَدنَا مُوسَى أَربَعِينَ لَيلَةً} ومنه توقيته - صلى الله عليه وسلم - في قص الشارب وتقليم الأظفار وحلق العانة ألا تترك أكثر من أربعين ليلة،
فتخصيص هذه المواضع بهذا العدد الخاص هو سرٌّ من أسرار الشريعة لم يطلع عليه نصًّا، غير أنه قد تنسم منه بعضُ علمائنا أمرًا تسكن النفسُ إليه، وذلك أنه قال: إن هذا العدد في هذه المواضع إنما خصَّ بالذكر لأنَّه مدَّة يكمل فيها ما ضربت له، فينتقل إلى غيره ويحصل فيها تبدُّله وبيانه بانتقال أطوار الخلقة في كل أربعين منها يكمل فيها طور، فينتقل عند انتهائه إلى غيره، كما قد نصَّ عليه في الحديث،
وكذلك في الأربعين الميعادية: أمر بنو إسرائيل أن يكملوا تهيَّؤهم لسماع كلام الله، فكمل لهم ذلك عند انتهائها، ومثل ذلك في الأربعين الإخلاصية،
وأما أربعون شارب الخمر فليَتَبدَّل لحم شارب الخمر بغيره، ويؤيده أن أهل التجارب قالوا: إن السمن يظهر في الحيوان في أربعين يومًا،
وقريبٌ من هذا الأربعون المضروبة لخصال الفطرة؛ لأنَّها عند انتهائها يكمل فحشها واستقذارها، فينبغي أن تغير عن حالها.
وأما أربعون إتيان العراف فلأنها - والله أعلم - المدة التي ينتهي إليها تأثير تلك المعصية في قلب فاعلها وفي جوارحه، وعند انتهائها ينتهي ذلك التأثير، والله تعالى أعلم
كيف كان يعلم الجنّ بعض الغيب الذي لا يعلمه الناس ؟
عن عَبدَ اللَّهِ بنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخبَرَنِي رَجُلٌ مِن أَصحَابِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مِن الأَنصَارِ:
أَنَّهُم بَينَمَا هُم جُلُوسٌ لَيلَةً مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ رُمِيَ بِنَجمٍ فَاستَنَارَ،
فَقَالَ لَهُم رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: مَاذَا كُنتُم تَقُولُونَ فِي الجَاهِلِيَّةِ إِذَا رُمِيَ بِمِثلِ هَذَا؟
قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعلَمُ، كُنَّا نَقُولُ: وُلِدَ اللَّيلَةَ رَجُلٌ عَظِيمٌ، وَمَاتَ رَجُلٌ عَظِيمٌ.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: فَإِنَّهَا لَا يُرمَى بِهَا لِمَوتِ أَحَدٍ وَلَا لِحَيَاتِهِ، وَلَكِن رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى اسمُهُ إِذَا قَضَى أَمرًا سَبَّحَ حَمَلَةُ العَرشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُم، حَتَّى يَبلُغَ التَّسبِيحُ أَهلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنيَا، ثُمَّ قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ العَرشِ لِحَمَلَةِ العَرشِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُم؟
فَيُخبِرُونَهُم مَاذَا قَالَ،
فَيَستَخبِرُ بَعضُ أَهلِ السَّمَاوَاتِ بَعضًا حَتَّى يَبلُغَ الخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنيَا، فَيخطَفُ الجِنُّ السَّمعَ فَيَقذِفُونَ إِلَى أَولِيَائِهِم، وَيُرمَونَ بِهِ، فَمَا جَاؤوا بِهِ عَلَى وَجهِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُم يَقرفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ".
وفي رواية: وَقَالَ اللَّهُ: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِم قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُم قَالُوا الحَقَّ}
رواه مسلم .
شرح قوله " لكن ربُّنا إذا قضى أمرًا سبَّح حملة العرش"
أي: أظهر قضاءه وما حكم به لملائكته، لأنَّ قضاءه إنما هو راجع إلى سابق علمه ونفوذ مشيئته وحُكمه، وهما أزليان، فإذا اطّلع حملة العرش على ما سبق في علمه خضعت الملائكة لعظمته وضجَّت بتسبيحه وتقديسه، فيسمع ذلك أهل السماء التي تليهم، وهكذا ينتهي التسبيح لملائكة سماء الدنيا،
ثم يتساءلون فيما بينهم: ماذا قال ربكم؟ على الترتيب المذكور في الحديث.
ففيه ما يدل على أن حملة العرش أفضل الملائكة وأعلاهم منزلة، وأن فضائل الملائكة على حسب مراتبهم في السماوات،
وأن الكل منهم لا يعلمون شيئًا من الأمور إلا بأن يعلمهم الله تعالى به، كما قال تعالى: {عَالِمُ الغَيبِ فَلا يُظهِرُ عَلَى غَيبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارتَضَى مِن رَسُولٍ}
وفيه ما يدل على أن علوم الملائكة بالكائنات يستفيده بعضهم من بعض إلا حملة العرش؛ فإنهم يستفيدون علومهم من الحق سبحانه وتعالى، فإنَّهم هم المبدوؤون بالإعلام أولًا، ثم إن ملائكة كل سماء تستفيد من التي فوقها،
دلالة حديث ابن عباس على أن النجوم لا يعرف بها الغيب :
قال القرطبي : وفي هذا دليل على أن النجوم لا يعرف بها علم الغيب ولا القضاء، ولو كان كذلك لكانت الملائكة أعلم بذلك وأحق به،
وكل ما يتعاطاه المنجمون من ذلك فليس شيء منه علمًا يقينًا، وإنَّما هو رجم بظن وتخمين بوهم، الإصابة فيه نادرة، والخطأ والكذب فيه غالب،
وهذا مشاهد من أحوال المنجمين، والمطلوب من العلوم النجوميات ما يهتدى به في الظلمات وتعرف به الأوقات، وما سوى ذلك فمخارق وتُرَّهات،
ويكفي في الرد عليهم ظهور كذبهم واضطراب قولهم، وقد اتفقت الشرائع على أن القضاء بالنجوم محرَّم مذموم.
وقوله (ولكنهم يقرفون فيه ويزيدون) ، وهو من القرف وهو الخلط - قاله صاحب الأفعال؛ أي: يخلطون فيها من الكذب
، وفي بعض النسخ يَرقُون بفتح الياء وتسكين الراء وتخفيف القاف؛ أي يتقوَّلون، يقال: رقي فلان على الباطل؛ أي: تقوَّله - بكسر القاف، وهو من الرقي وهو الصعود؛ أي: إنهم يقولون فوق ما سمعوا - قاله القاضي عياض.
وقوله: {
حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِم قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُم قَالُوا الحَقَّ}، قرأه ابن عامر ويعقوب فَزَّعَ عَن قُلُوبِهِم مبنيًا للفاعل، ويكون فيه ضمير يعود على الله تعالى؛ أي: أزال عن قلوبهم الفزع، وهذا على نحو قولهم: مرَّضتُ المريض - إذا عالجته فأزلتُ مرضه.
وقرأه الجماعة فُزِّعَ بضم الفاء مبنيًا للمفعول الذي لم يسم فاعله؛ أي: أزيل عن قلوبهم الفزع، وهو الذعر على كلتا القراءتين.
قال كعب : إذا تكلَّم الله بلا كيف ضربت الملائكة بأجنحتها وخرَّت فزعًا، ثم قالوا فيما بينهم: {مَاذَا قَالَ رَبُّكُم}؟
وقوله: {قَالُوا الحَقَّ} بالنصب على أنه نعت لمصدر محذوف؛ أي: قال القول الحق، وهو مفعول مطلق لا مفعول به؛ لأنَّ القول لا يتعدَّى إلا إلى الجمل في أكثر قول النحويين.
وقوله: {وَهُوَ العَلِيُّ الكَبِيرُ}؛ أي: العلي شأنه، الكبير سلطانه.
وختم القرطبي قائلا: وهذا التفسير هو الموافق لهذا الحديث، فتعيَّن أن يكون هو المراد من الآية، وللمفسرين أقوال أخر بعيدة عن معنى الحديث أضربت عنها لذلك، فمن أرادها وجدها في كتبهم.