![]() |
من هدي النبي-ابن القيم. |
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في مشيه وكلامه وضحكه وبكائه :
زاد المعاد في هدي خير العباد :
فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَشْيِهِ : ِ
كَانَ إِذَا مَشَى
تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا، وَكَانَ أَسْرَعَ النَّاسِ مِشْيَةً وَأَحْسَنَهَا
وَأَسْكَنَهَا،
قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: «مَا رَأَيْتُ
شَيْئًا أَحْسَنَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
كَأَنَّ الشَّمْسَ تَجْرِي فِي وَجْهِهِ، وَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا أَسْرَعَ فِي
مِشْيَتِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَأَنَّمَا
الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ، وَإِنَّا لَنُجْهِدَ أَنْفُسَنَا وَإِنَّهُ لَغَيْرُ
مُكْتَرِثٍ»
وَقَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ ( «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا
مَشَى تَكَفَّأَ تَكَفُّؤًا كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ» )
وَقَالَ مَرَّةً ( «إِذَا
مَشَى تَقَلَّعَ» )
قال ابن القيم : وَالتَّقَلُّعُ الِارْتِفَاعُ مِنَ الْأَرْضِ بِجُمْلَتِهِ
كَحَالِ الْمُنْحَطِّ مِنَ الصَّبَبِ، وَهِيَ مِشْيَةُ أُولِي الْعَزْمِ
وَالْهِمَّةِ وَالشَّجَاعَةِ، وَهِيَ أَعْدَلُ الْمِشْيَاتِ وَأَرْوَاحُهَا
لِلْأَعْضَاءِ وَأَبْعَدُهَا مِنْ مِشْيَةِ الْهَوَجِ وَالْمَهَانَةِ
وَالتَّمَاوُتِ،
فَإِنَّ الْمَاشِيَ إِمَّا أَنْ
يَتَمَاوَتَ فِي مَشْيِهِ وَيَمْشِيَ قِطْعَةً وَاحِدَةً كَأَنَّهُ خَشَبَةٌ
مَحْمُولَةٌ، وَهِيَ مِشْيَةٌ مَذْمُومَةٌ قَبِيحَةٌ،
وَإِمَّا أَنْ يَمْشِيَ
بِانْزِعَاجٍ وَاضْطِرَابٍ مَشْيَ الْجَمَلِ الْأَهْوَجِ، وَهِيَ مِشْيَةٌ
مَذْمُومَةٌ أَيْضًا، وَهِيَ دَالَّةٌ عَلَى خِفَّةِ عَقْلِ صَاحِبِهَا، وَلَا
سِيَّمَا إِنْ كَانَ يُكْثِرُ الِالْتِفَاتَ حَالَ مَشْيِهِ يَمِينًا وَشِمَالًا،
وَإِمَّا أَنْ يَمْشِيَ هَوْنًا، وَهِيَ
مِشْيَةُ عِبَادِ الرَّحْمَنِ كَمَا وَصَفَهُمْ بِهَا فِي كِتَابِهِ فَقَالَ
{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا} [الفرقان:
63]
قَالَ غَيْرُ وَاحِدٍ مِنَ السَّلَفِ: بِسَكِينَةٍ
وَوَقَارٍ مِنْ غَيْرِ تَكَبُّرٍ وَلَا تَمَاوُتٍ، وَهِيَ مِشْيَةُ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّهُ مَعَ هَذِهِ الْمِشْيَةِ
كَانَ كَأَنَّمَا يَنْحَطُّ مِنْ صَبَبٍ، وَكَأَنَّمَا الْأَرْضُ تُطْوَى لَهُ،
حَتَّى كَانَ الْمَاشِي مَعَهُ يُجْهِدُ نَفْسَهُ وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَيْرُ مُكْتَرِثٍ،
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَمْرَيْنِ:
أَنَّ مِشْيَتَهُ لَمْ تَكُنْ مِشْيَةً
بِتَمَاوُتٍ وَلَا بِمَهَانَةٍ، بَلْ مِشْيَةٌ أَعْدَلُ الْمِشْيَاتِ.
أنواع المشيات :
وَالْمِشْيَاتُ عَشَرَةُ
أَنْوَاعٍ: هَذِهِ الثَّلَاثَةُ مِنْهَا، وَالرَّابِعُ: السَّعْيُ، وَالْخَامِسُ:
الرَّمَلُ، وَهُوَ أَسْرَعُ الْمَشْيِ مَعَ تَقَارُبِ الْخُطَى وَيُسَمَّى:
الْخَبَبَ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ( «خَبَّ فِي طَوَافِهِ ثَلَاثًا وَمَشَى أَرْبَعًا» )
.
السَّادِسُ:
النَّسَلَانُ، وَهُوَ الْعَدْوُ الْخَفِيفُ الَّذِي لَا يُزْعِجُ الْمَاشِيَ وَلَا
يُكْرِثُهُ. وَفِي بَعْضِ الْمَسَانِيدِ أَنَّ الْمُشَاةَ شَكَوْا إِلَى رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمَشْيِ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ
فَقَالَ: ( «اسْتَعِينُوا بِالنَّسَلَانِ» ) .
وَالسَّابِعُ:
الْخَوْزَلَى، وَهِيَ مِشْيَةُ التَّمَايُلِ، وَهِيَ مِشْيَةٌ يُقَالُ: إِنَّ
فِيهَا تَكَسُّرًا وَتَخَنُّثًا.
وَالثَّامِنُ:
الْقَهْقَرَى، وَهِيَ الْمِشْيَةُ إِلَى وَرَاءٍ.
وَالتَّاسِعُ:
الْجَمَزَى، وَهِيَ مِشْيَةٌ يَثِبُ فِيهَا الْمَاشِي وَثْبًا.
وَالْعَاشِرُ: مِشْيَةُ
التَّبَخْتُرِ، وَهِيَ مِشْيَةُ أُولِي الْعُجْبِ وَالتَّكَبُّرِ، وَهِيَ الَّتِي
خَسَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِصَاحِبِهَا لَمَّا نَظَرَ فِي عِطْفَيْهِ
وَأَعْجَبَتْهُ نَفْسُهُ، فَهُوَ يَتَجَلْجَلُ فِي الْأَرْضِ إِلَى يَوْمِ
الْقِيَامَةِ.
وَأَعْدَلُ هَذِهِ
الْمِشْيَاتِ مِشْيَةُ الْهَوْنِ وَالتَّكَفُّؤِ.
وَأَمَّا مَشْيُهُ مَعَ
أَصْحَابِهِ فَكَانُوا يَمْشُونَ بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُوَ خَلْفَهُمْ وَيَقُولُ:
(دَعُوا ظَهْرِي لِلْمَلَائِكَةِ) وَلِهَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: وَكَانَ
يَسُوقُ أَصْحَابَهُ.
وَكَانَ يَمْشِي حَافِيًا وَمُنْتَعِلًا، وَكَانَ يُمَاشِي
أَصْحَابَهُ فُرَادَى وَجَمَاعَةً.
فِي هَدْيِهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي جُلُوسِهِ وَاتِّكَائِهِ :
كَانَ يَجْلِسُ عَلَى
الْأَرْضِ وَعَلَى الْحَصِيرِ وَالْبِسَاطِ،
وَقَالَتْ قيلة بنت مخرمة: «أَتَيْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَاعِدٌ
الْقُرْفُصَاءَ، قَالَتْ: فَلَمَّا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَالْمُتَخَشِّعِ فِي الْجِلْسَةِ أُرْعِدْتُ مِنَ الْفَرَقِ»
.
وَلَمَّا قَدِمَ عَلَيْهِ عَدِيُّ بْنُ
حَاتِمٍ دَعَاهُ إِلَى مَنْزِلِهِ، فَأَلْقَتْ إِلَيْهِ الْجَارِيَةُ وِسَادَةً
يَجْلِسُ عَلَيْهَا فَجَعَلَهَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ عدي وَجَلَسَ عَلَى الْأَرْضِ،
قَالَ عدي: (فَعَرَفْتُ أَنَّهُ لَيْسَ بِمَلِكٍ).
وَكَانَ يَسْتَلْقِي أَحْيَانًا،
وَرُبَّمَا وَضَعَ إِحْدَى رِجْلَيْهِ عَلَى الْأُخْرَى، وَكَانَ يَتَّكِئُ عَلَى
الْوِسَادَةِ، وَرُبَّمَا اتَّكَأَ عَلَى يَسَارِهِ، وَرُبَّمَا اتَّكَأَ عَلَى
يَمِينِهِ.
فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي كَلَامِهِ وَسُكُوتِهِ :
كَانَ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَفْصَحَ خَلْقِ اللَّهِ، وَأَعْذَبَهُمْ كَلَامًا،
وَأَسْرَعَهُمْ أَدَاءً، وَأَحْلَاهُمْ مَنْطِقًا، حَتَّى إِنَّ كَلَامَهُ
لَيَأْخُذُ بِمَجَامِعِ الْقُلُوبِ وَيَسْبِي الْأَرْوَاحَ، وَيَشْهَدُ لَهُ
بِذَلِكَ أَعْدَاؤُهُ.
وَكَانَ إِذَا تَكَلَّمَ تَكَلَّمَ بِكَلَامٍ مُفَصَّلٍ مُبَيَّنٍ يَعُدُّهُ
الْعَادُّ، لَيْسَ بِهَذٍّ مُسْرِعٍ لَا يُحْفَظُ، وَلَا مُنْقَطِعٍ تَخَلَّلُهُ
السَّكَتَاتُ بَيْنَ أَفْرَادِ الْكَلَامِ، بَلْ هَدْيُهُ فِيهِ أَكْمَلُ
الْهَدْيِ،
قَالَتْ عائشة: «مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْرُدُ سَرْدَكُمْ هَذَا، وَلَكِنْ كَانَ
يَتَكَلَّمُ بِكَلَامٍ بَيِّنٍ فَصْلٍ يَحْفَظُهُ مَنْ جَلَسَ إِلَيْهِ» .
وَكَانَ كَثِيرًا مَا يُعِيدُ الْكَلَامَ
ثَلَاثًا لِيُعْقَلَ عَنْهُ، وَكَانَ إِذَا سَلَّمَ سَلَّمَ ثَلَاثًا.
وَكَانَ طَوِيلَ السُّكُوتِ لَا
يَتَكَلَّمُ فِي غَيْرِ حَاجَةٍ، يَفْتَتِحُ الْكَلَامَ وَيَخْتَتِمُهُ
بِأَشْدَاقِهِ، وَيَتَكَلَّمُ بِجَوَامِعِ الْكَلَامِ، فَصْلٌ لَا فُضُولٌ وَلَا
تَقْصِيرٌ،
وَكَانَ لَا يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ،
وَلَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا يَرْجُو ثَوَابَهُ، وَإِذَا كَرِهَ الشَّيْءَ
عُرِفَ فِي وَجْهِهِ، وَلَمْ يَكُنْ فَاحِشًا وَلَا مُتَفَحِّشًا وَلَا صَخَّابًا.
تبسم رسول الله وضحكه :
وَكَانَ جُلَّ ضَحِكِهِ التَّبَسُّمُ، بَلْ كُلُّهُ التَّبَسُّمُ، فَكَانَ نِهَايَةُ ضَحِكِهِ أَنْ تَبْدُوَ نَوَاجِذُهُ.وَكَانَ يَضْحَكُ مِمَّا
يُضْحَكُ مِنْهُ، وَهُوَ مِمَّا يُتَعَجَّبُ مِنْ مِثْلِهِ وَيُسْتَغْرَبُ
وُقُوعُهُ وَيُسْتَنْدَرُ.
وَلِلضَّحِكِ أَسْبَابٌ
عَدِيدَةٌ هَذَا أَحَدُهَا. وَالثَّانِي: ضَحِكُ الْفَرَحِ، وَهُوَ أَنْ يَرَى مَا
يَسُرُّهُ أَوْ يُبَاشِرُهُ.
وَالثَّالِثُ: ضَحِكُ الْغَضَبِ، وَهُوَ
كَثِيرًا مَا يَعْتَرِي الْغَضْبَانَ إِذَا اشْتَدَّ غَضَبُهُ، وَسَبَبُهُ
تَعَجُّبُ الْغَضْبَانِ مِمَّا أَوْرَدَ عَلَيْهِ الْغَضَبُ، وَشُعُورُ نَفْسِهِ
بِالْقُدْرَةِ عَلَى خَصْمِهِ، وَأَنَّهُ فِي قَبْضَتِهِ، وَقَدْ يَكُونُ ضَحِكُهُ
لِمُلْكِهِ نَفْسَهُ عِنْدَ الْغَضَبِ، وَإِعْرَاضِهِ عَمَّنْ أَغْضَبَهُ،
وَعَدَمِ اكْتِرَاثِهِ بِهِ.
بُكَاؤُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
وَأَمَّا بُكَاؤُهُ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَكَانَ مِنْ جِنْسِ ضَحِكِهِ لَمْ يَكُنْ
بِشَهِيقٍ وَرَفْعِ صَوْتٍ، كَمَا لَمْ يَكُنْ ضَحِكُهُ بِقَهْقَهَةٍ، وَلَكِنْ
كَانَتْ تَدْمَعُ عَيْنَاهُ حَتَّى تَهْمُلَا، وَيُسْمَعُ لِصَدْرِهِ أَزِيزٌ.
وَكَانَ بُكَاؤُهُ تَارَةً رَحْمَةً لِلْمَيِّتِ، وَتَارَةً خَوْفًا عَلَى
أُمَّتِهِ وَشَفَقَةً عَلَيْهَا، وَتَارَةً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ،
وَتَارَةً
عِنْدَ سَمَاعِ الْقُرْآنِ وَهُوَ بُكَاءُ اشْتِيَاقٍ وَمَحَبَّةٍ وَإِجْلَالٍ
مُصَاحِبٌ لِلْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ.
وَلَمَّا مَاتَ ابْنُهُ إبراهيم دَمَعَتْ
عَيْنَاهُ وَبَكَى رَحْمَةً لَهُ وَقَالَ: «تَدْمَعُ الْعَيْنُ وَيَحْزَنُ
الْقَلْبُ، وَلَا نَقُولُ إِلَّا مَا يُرْضِي رَبَّنَا، وَإِنَّا بِكَ يَا إبراهيم
لَمَحْزُونُونَ» ) ،
وَبَكَى لَمَّا شَاهَدَ إِحْدَى بَنَاتِهِ وَنَفْسُهَا
تَفِيضُ،
(وَبَكَى لَمَّا قَرَأَ عَلَيْهِ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ النِّسَاءِ
وَانْتَهَى فِيهَا إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ
أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} [النساء: 41] ] ،
وَبَكَى لَمَّا مَاتَ عُثْمَانُ بْنُ مَظْعُونٍ،
وَبَكَى
لَمَّا كَسَفَتِ الشَّمْسُ وَصَلَّى صَلَاةَ الْكُسُوفِ وَجَعَلَ يَبْكِي فِي
صَلَاتِهِ، وَجَعَلَ يَنْفُخُ وَيَقُولُ: ( «رَبِّ أَلَمْ تَعِدْنِي أَلَّا
تُعَذِّبَهُمْ وَأَنَا فِيهِمْ
وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ
وَنَحْنُ نَسْتَغْفِرُكَ»
وَبَكَى لَمَّا جَلَسَ عَلَى قَبْرِ إِحْدَى
بَنَاتِهِ،
وَكَانَ يَبْكِي أَحْيَانًا فِي صَلَاةِ اللَّيْلِ.
أَنْوَاعُ الْبُكَاءُ :
أَحَدُهَا: بُكَاءُ
الرَّحْمَةِ وَالرِّقَّةِ.
وَالثَّانِي: بُكَاءُ
الْخَوْفِ وَالْخَشْيَةِ.
وَالثَّالِثُ: بُكَاءُ
الْمَحَبَّةِ وَالشَّوْقِ.
وَالرَّابِعُ: بُكَاءُ
الْفَرَحِ وَالسُّرُورِ.
وَالْخَامِسُ: بُكَاءُ
الْجَزَعِ مِنْ وُرُودِ الْمُؤْلِمِ وَعَدَمِ احْتِمَالِهِ.
وَالسَّادِسُ: بُكَاءُ
الْحُزْنِ.
وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ بُكَاءِ الْخَوْفِ، أَنَّ بُكَاءَ الْحُزْنِ يَكُونُ عَلَى مَا مَضَى مِنْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ أَوْ فَوَاتِ مَحْبُوبٍ، وَبُكَاءُ الْخَوْفِ يَكُونُ لِمَا يُتَوَقَّعُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مِنْ ذَلِكَ،
وَالْفَرْقُ بَيْنَ بُكَاءِ
السُّرُورِ وَالْفَرَحِ وَبُكَاءِ الْحُزْنِ:
أَنَّ دَمْعَةَ السُّرُورِ بَارِدَةٌ
وَالْقَلْبُ فَرْحَانُ، وَدَمْعَةُ الْحُزْنِ حَارَّةٌ وَالْقَلْبُ حَزِينٌ،
وَلِهَذَا يُقَالُ لِمَا يُفْرَحُ بِهِ: هُوَ قُرَّةُ عَيْنٍ، وَأَقَرَّ اللَّهُ
بِهِ عَيْنَهُ، وَلِمَا يُحْزِنُ: هُوَ سَخِينَةُ الْعَيْنِ، وَأَسْخَنَ اللَّهُ
عَيْنَهُ بِهِ.
وَالسَّابِعُ: بُكَاءُ
الْخَوْرِ وَالضَّعْفِ
وَالثَّامِنُ: بُكَاءُ النِّفَاقِ، وَهُوَ أَنْ تَدْمَعَ الْعَيْنُ وَالْقَلْبُ
قَاسٍ، فَيُظْهِرُ صَاحِبُهُ الْخُشُوعَ وَهُوَ مِنْ أَقْسَى النَّاسِ قَلْبًا.
وَالتَّاسِعُ: الْبُكَاءُ
الْمُسْتَعَارُ وَالْمُسْتَأْجَرُ عَلَيْهِ، كَبُكَاءِ النَّائِحَةِ
بِالْأُجْرَةِ، فَإِنَّهَا كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: (تَبِيعُ
عَبْرَتَهَا وَتَبْكِي شَجْوَ غَيْرِهَا)
وَالْعَاشِرُ: بُكَاءُ
الْمُوَافَقَةِ، وَهُوَ أَنْ يَرَى الرَّجُلُ النَّاسَ يَبْكُونَ لِأَمْرٍ وَرَدَ
عَلَيْهِمْ فَيَبْكِي مَعَهُمْ، وَلَا يَدْرِي لِأَيِّ شَيْءٍ يَبْكُونَ، وَلَكِنْ
يَرَاهُمْ يَبْكُونَ فَيَبْكِي.
وَمَا كَانَ مِنْ ذَلِكَ
دَمْعًا بِلَا صَوْتٍ فَهُوَ بُكًى -مَقْصُورٌ - وَمَا كَانَ مَعَهُ صَوْتٌ فَهُوَ
بُكَاءٌ - مَمْدُودٌ - عَلَى بِنَاءِ الْأَصْوَاتِ.
التَّبَاكِي :
وَمَا كَانَ مِنْهُ
مُسْتَدْعًى مُتَكَلَّفًا فَهُوَ التَّبَاكِي، وَهُوَ نَوْعَانِ: مَحْمُودٌ
وَمَذْمُومٌ،
فَالْمَحْمُودُ أَنْ يُسْتَجْلَبَ
لِرِقَّةِ الْقَلْبِ وَلِخَشْيَةِ اللَّهِ لَا لِلرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ.
وَالْمَذْمُومُ أَنْ يُجْتَلَبَ لِأَجْلِ الْخَلْقِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ
الْخَطَّابِ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ رَآهُ يَبْكِي
هُوَ وأبو بكر فِي شَأْنِ أُسَارَى بَدْرٍ: أَخْبِرْنِي مَا يُبْكِيكَ يَا رَسُولَ
اللَّهِ؟ فَإِنْ وَجَدْتُ بُكَاءً بَكَيْتُ، وَإِنْ لَمْ أَجِدْ تَبَاكَيْتُ
لِبُكَائِكُمَا"
وَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»
وَقَدْ قَالَ بَعْضُ
السَّلَفُ: ابْكُوا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، فَإِنْ لَمْ تَبْكُوا فَتَبَاكَوْا.
فِي هَدْيِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تطيبه :
وَكَانَ صلى الله عليه
وسلم يُكْثِرُ التَّطَيُّبَ وَيُحِبُّ
الطِّيبَ .
عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن صاحب أنس، قال : «فرأيت
شعرا من شعره، فإذا هو أحمر فسألت فقيل احمر من الطيب»
ثَبَتَ عَنْ رَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «حُبِّبَ إِلَيَّ
مِنْ دُنْيَاكُمُ: النِّسَاءُ وَالطِّيبُ، وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي
الصَّلَاةِ» .
«وَكَانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُكْثِرُ التَّطَيُّبَ، وَتَشْتَدُّ عَلَيْهِ الرَّائِحَةُ الْكَرِيهَةُ، وَتَشُقُّ عَلَيْهِ،»
وَالطِّيبُ غِذَاءُ الرُّوحِ الَّتِي هِيَ مَطِيَّةُ
الْقُوَى تَتَضَاعَفُ وَتَزِيدُ بِالطِّيبِ، كَمَا تَزِيدُ بِالْغِذَاءِ
عن عائشة قالت: «كنت أطيب رسول الله صلى الله
عليه وسلم فيطوف على نسائه، ثم يصبح محرما ينضخ طيبا»
رواه البخاري ومسلم .
وَكَانَ لَا يَرُدُّ
الطِّيبَ، وَثَبَتَ عَنْهُ فِي حَدِيثِ صَحِيحِ مسلم أَنَّهُ قَالَ: ( «مَنْ
عُرِضَ عَلَيْهِ رَيْحَانٌ فَلَا يَرُدَّهُ، فَإِنَّهُ طَيِّبُ الرَّائِحَةِ
خَفِيفُ الْمَحْمِلِ» ) هَذَا لَفْظُ الْحَدِيثِ، وَبَعْضُهُمْ يَرْوِيهِ: «مَنْ
عُرِضَ عَلَيْهِ طِيبٌ فَلَا يَرُدَّهُ»
وَلَيْسَ بِمَعْنَاهُ، فَإِنَّ
الرَّيْحَانَ لَا تَكْثُرُ الْمِنَّةُ بِأَخْذِهِ، وَقَدْ جَرَتِ الْعَادَةُ
بِالتَّسَامُحِ فِي بَذْلِهِ، بِخِلَافِ الْمِسْكِ وَالْعَنْبَرِ وَالْغَالِيَةِ
وَنَحْوِهَا،
وَلَكِنَّ الَّذِي ثَبَتَ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِ عزرة بن ثابت، عَنْ ثمامة، قَالَ
أنس: ( «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَرُدُّ
الطِّيبَ» )
وَكَانَ لِرَسُولِ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُكَّةٌ يَتَطَيَّبُ مِنْهَا، وَكَانَ
أَحَبَّ الطِّيبِ إِلَيْهِ الْمِسْكُ .
شرح : السُكة : وعاء به اخلاط من الطيب .
إرسال تعليق