فإن هؤلاء جعلوا معنى "يعبدون " بمعنى يستسلمون لمشيئتي وقدرتي فيكونون معبدين مذللين كي يجري عليهم حكمي ومشيئتي لا يخرجون عن قضائي وقدري فهذا معنى صحيح في نفسه وإن كانت القدرية تنكره.
فبإنكارهم لذلك صاروا من أهل البدع ، بل الله خالق كل شيء وما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ،
وفي استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم {أعوذ بكلمات الله التامة التي لا يجاوزها بر ولا فاجر من شر ما ذرأ وبرأ وأعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه وشر عباده} . فكلماته التامة هي التي كون بها الأشياء كما قال تعالى. {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} لا يجاوزها بر ولا فاجر ولا يخرج أحد عن القدر المقدور ولا يتجاوز ما خط له في اللوح المسطور.
لكن قوله: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} لم يرد به هذا المعنى الذي ذهبوا إليه وحاموا حوله - من أن المخلوقات كلها تحت مشيئته وقهره وحكمه. فالمخلوقات كلها داخلة في هذا لا يشذ منها شيء عن هذا.
وقد قال تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} {وأن اعبدوني} الآية. وقوله: {واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا} {والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله} ،
فهذا ونحوه كثير في القرآن، لم يرد بعبادة الله إلا العبادة التي أمرت بها الرسل وهي عبادته وحده لا شريك له،
والمشركون لا يعبدون الله بل يعبدون الشيطان وما يدعونه من دون الله، سواء عبدوا الملائكة أو الأنبياء والصالحين أو التماثيل والأصنام المصنوعة؛
فهؤلاء المشركون قد عبدوا غير الله تعالى كما أخبر الله بذلك،
فكيف يقال: إن جميع الإنس والجن عبدوا الله؟
لكون قدر الله جاريا عليهم ، والفرق ظاهر بين عبادتهم إياه التي تحصل بإرادتهم واختيارهم وإخلاصهم الدين له وطاعة رسوله ،
وبين أن يعبدهم هو وينفذ فيهم مشيئته وتكون عبادتهم لغيره: للشيطان وللأصنام من المقدور.
وهذا يشبه قول من يقول من المتأخرين: أنا كافر برب يعصى فيجعل كلما يقع طاعة كما جعله هؤلاء عبادة لله تعالى لكونهم تحت المشيئة وكان بعض شيوخهم يقول عن إبليس: إن كان عصى الأمر فقد أطاع المشيئة لكن هؤلاء مباحية يسقطون الأمر،
وأما زيد بن أسلم ووهب بن منبه ونحوهم فحاشاهم من مثل هذا؛ فإنهم كانوا من أعظم الناس تعظيما للأمر والنهي والوعد والوعيد ولكن قصدوا الرد على المكذبين بالقدر القائلين: بأنه يشاء ما لا يكون ويكون ما لا يشاء.
وهؤلاء حقيقة قولهم: إنه لا يقدر على تعبيدهم وتصريفهم تحت مشيئته فأرادوا إبطال قول هؤلاء ونعم ما أرادوا لكن الكلام فيما أريد بالآية.
وقد قصد هذا طائفة فسروا العبادة بأمر واقع عام وليست هي العبادة المأمور بها على ألسن الرسل ففي تفسير ابن أبي طلحة المضاف إلى ابن عباس:
إلا ليقروا بالعبودية طوعا وكرها وهذه العبودية كقوله: {وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها} وقوله: {ولله يسجد من في السماوات والأرض طوعا وكرها} ،وفسرت طائفة " الكره " بأنه جريان حكم القدر فيكون كالقول قبله،
والصحيح أنه انقيادهم لحكمه القدري بغير اختيارهم، كاستسلامهم عند المصائب وانقيادهم لما يكرهون من أحكامه الشرعية فكل أحد لا بد له من انقياده لحكمه القدري والشرعي فهذا معنى صحيح، قد بسط في غير هذا الموضع لكن ليس هو العبادة.
القول الثالث: إلا للتذلل والخضوع :
وكذلك قال بعضهم: إلا ليخضعوا لي ويتذللوا ، قالوا: ومعنى العبادة في اللغة - التذلل والانقياد وكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله تعالى متذلل لمشيئته. لا يملك أحد لنفسه خروجا عما خلق. وقد ذكر أبو الفرج قول ابن عباس هذا. قال: وبيان هذا قوله: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} وهذه الآية توافق من قال: إلا ليعرفون؛ كما سيأتي. وهؤلاء الذين أقروا بأن الله خالقهم لم يقروا بذلك كرها بخلاف إسلامهم وخضوعهم له فإنه يكون كرها وأما نفس الإقرار فهو فطري فطروا عليه وبذلوه طوعا.
و " قول رابع " العبادة نوعان :
روى ابن أبي حاتم عن زائدة عن السدي: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} قال: خلقهم للعبادة فمن العبادة عبادة تنفع ومن العبادة عبادة لا تنفع {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} هذا منهم عبادة وليس ينفعهم مع شركهم وهذا المعنى صحيح لكن المشرك يعبد الشيطان وما عدل به الله لا يعبد ولا يسمى مجرد الإقرار بالصانع عبادة لله مع الشرك بالله ولكن يقال كما قال: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} فإيمانهم بالخالق مقرون بشركهم به ،
وأما العبادة ففي الحديث {يقول الله: أنا أغنى الشركاء عن الشرك من عمل عملا أشرك فيه غيري فأنا منه بريء وهو كله الذي أشرك} فعبادة المشركين وإن جعلوا بعضها لله لا يقبل منها شيئا بل كلها لمن أشركوه. فلا يكونون قد عبدوا الله سبحانه .
و " قول خامس " : أي إلا ليعرفون :
ذكره ابن أبي حاتم عن ابن جريج قال: ليعرفون قال: وروي عن قتادة وذكره البغوي عن مجاهد. قال: وقال مجاهد إلا ليعرفون. قال: وهذا قول حسن؛ لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده، ودليله قوله: {ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله} فيقال: هذا المعنى صحيح؛
وكونه إنما عرف بخلقهم يقتضي أن خلقهم شرط في معرفتهم لا يقتضي أن يكون ما حصل لهم من المعرفة هو الغاية التي خلقوا لها وهذا من جنس قول السدي؛ فإن هذا الإقرار العام هم مشركون فيه كما قال: {وإذ أخذ ربك من بني آدم} لكن ليس هذا هو العبادة.
فهذه " الأقوال الأربعة ": قول من عرف أن الآية عامة فأراد أن يفسرها بعبادة تعم الإنس والجن واعتقد أنه (إن فسرها بالعبادة المعروفة وهي الطاعة لله والطاعة لرسله لزم أن تكون واقعة منهم ولم تقع؛ فأراد أن يفسرها بعبادة واقعة وظن أنه إذا فسرها بعبادة لم تقع لزمه قول القدرية وأنه خلقهم لعبادته فعصوه بغير مشيئته وغير قدرته ففروا من قول القدرية وهم معذورون في هذا الفرار؟ ،لكن فسرها بما لم يرد بها .
و " القول السادس " : أي إلا لآمرهم بالعبادة :
وهو ما عليه جمهور المسلمين:
أن الله خلقهم لعبادته وهو فِعْل ما أمروا به ، ولهذا يوجد المسلمون قديما وحديثا يحتجون بهذه الآية على هذا المعنى حتى في وعظهم وتذكيرهم وحكاياتهم كما في حكاية إبراهيم بن أدهم؛ ما لهذا خلقت ولا بهذا أمرت؛
وفي حديث إسرائيلي: {يا ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب وتكلفت برزقك فلا تتعب فاطلبني تجدني؛ فإن وجدتني وجدت كل شيء؛ وإن فتك فاتك كل شيء وأنا أحب إليك من كل شيء}،
وهذا هو المأثور عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب؛ وغيره من السلف ،قال: إلا لآمرهم أن يعبدون وأدعوهم إلى عبادتي.
قالوا: ويؤيده قوله تعالى {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين} وقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا}، وهذا اختيار الزجاج وغيره.
وهذا هو المعروف عن مجاهد بالإسناد الثابت؛ قال ابن أبي حاتم: ثنا أبو سعيد الأشج ثنا أبو أسامة عن شبل عن ابن أبي نجيح عن مجاهد {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} "لآمرهم وأنهاهم " ،
كذلك روي عن الربيع بن أنس قال: " ما خلقتهما إلا للعبادة ".
ويدل على هذا مثل قوله: {أيحسب الإنسان أن يترك سدى} يعني لا يؤمر ولا ينهى ،
وقوله: {قل ما يعبأ بكم ربي لولا دعاؤكم} أي لولا عبادتكم ،
وقوله: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} {وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم} الآيات وما بعدها.
وقد قال في القرآن في غير موضع: {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} {يا أيها الناس اتقوا ربكم} ،
فقد أمرهم بما خلقهم له وأرسل الرسل إلى الإنس والجن، فهذا هو المعنى الذي قصد بالآية قطعا وهو الذي تفهمه جماهير المسلمين ويحتجون بالآية عليه؛ ويعترفون بأن الله خلقهم ليعبدوه، لا ليضيعوا حقه،
وفي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: {يا معاذ أتدري ما حق الله على عباده؟ قال: الله ورسوله أعلم،
قال: فإن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا،
أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ قلت: الله ورسوله أعلم قال: فإن حقهم عليه أن لا يعذبهم} .
القول المختار : إلا للعبادة الواجبة :
أقول ان القول المختار هو قول الربيع بن أنس وهو من القول الخامس قول الجمهور : أي للعبادة .
وهو قول يبنى على أصل جواز أن الفعل المضارع يريد به المصدر ، فعل : يعبدون ، يراد المصدر "العبادة ".
فمعنى قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) أي للعبادة الواجبة والمكلفة ، ويدل عليه قوله بعدها " ما أريد منهم من رزق " ، الشاهد :" ما أريد".، فهي ارادة الأمر والوجوب والقضاء .
فالسيد الذي اشترى مملوكا ليكون له عبدا ، إنما أراد بهذا الشراء والملكية هو أن يعمل له هذا المملوك ،
لكن عمل عباد الله غير عمل عباد المماليك للملوك ،
فعمل عباد الله المراد هو التحميد والثناء والرضا والحب ،
أما عمل العبيد للسادة فهو الفلاحة أو الصناعة والتجارة أو الخدمة أو غيرها .
الله الحكيم ذو الحكمة :
من دلائل أنّ لله حكمة أن من أسمائه الحسنى ، اسم " الحكيم "
فكما الله رحيم ذو الرحمة وعليم ذو العلم وقدير ذو القدرة كذلك فهو الحكيم ذو الحكمة .
معنى اسم الله تعالى " الحكيم " :
قَالَ الحليميّ : مَعْنَى الْحَكِيمِ : الذي لا يَقُولُ وَلا يَفْعَلُ إِلاَّ الصَّوَاب ، وَإِنَّمَا يَنْبَغِي أَنْ يُوصَفَ بِذَلِكَ لأَنَّ أَفْعَالَهُ سَدِيدَةٌ ، وَصُنْعَهُ مُتْقَنٌ.
وقال الطبري في التفسير: وهو الحكيم في تدبير خلقه ، وتسخيرهم لما يشاء ، العليم بمصالحهم.
وقال ابن كثير: حكيم في أقواله وأفعاله.
قالت الملائكة لله في خلق آدم ( انك انت العليم الحكيم ) قال ابن كثير : الحكيم في خلقك وأمرك وفي تعليمك من تشاء ومنعك من تشاء لك الحكمة في ذلك والعدل التام
الحكيم الذي خلق الناس وهو يعلم ان سيكون فيهم المفسد وسافك الدماء والعصاة .
والحكيم أي المصيب في أفعاله " .
قلت . قد علم أبينا وابو الأنبياء ابراهيم وابنه حكمة الله حين دعوا ربهما : رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ ، فهو الحكيم ذو الحكمة يؤتيها من يشاء من عباده .
فهو العليم سبحانه الذي يعلم مخلوقاته العلم ،
وهو الحكيم الذي يؤتي ويعلم مخلوقاته الحكمة .
قال ابن القيم : الحكيم من أسمائه الحسنى ، والحكمة من صفاته العلى والشريعة الصادرة عن امره مبناها على الحكمة .
قلت . قال تعالى : يدبر الأمر ، وهل يدبر إلا من له الحكمة والعلم .
والحكمة ضد الهوى والسفاهة .
ثمرة معرفة أن لله حكمة :
فإذا علم العبد أن الحكيم - سبحانه - هو المدبر للأمور المتقن لها والموجد لها على غاية الإحكام والإتقان والكمال، والواضع للأشياء في مواضعها، والعالم بخواصها ومنافعها الخبير بحقائقها ومآلاتها..
فإذا عرف العبد ذلك وتيقن هذا المعنى وأن كل ما يجري في هذا الكون هو لحكمة بالغة أرادها الله تبارك وتعالى- علِمَ هذه الحكمة من علمها وجهلها من جهلها- كان لهذه المعرفة الأثر البالغ في حياته وتصرفاته ونظرته للكون والحياة ، وعاش مطمئن القلب قرير العين مفوضا الأمر كله إلى الله تعالى متقنا لعمله محسنا لعبادته،
ومتيقنا أن كل ما يجري في الكون والحياة هو من تقدير الحكيم العليم اللطيف الخبير الذي لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه.
أشكال حكمة الله
1-حكمة الله في شرعه
قال تعالى : كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (البقرة)
وقال (وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاأُولِي ) ،
وقال (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ ) .
2-حكمة الله في قدره
وقال تعالى : {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112)} [الأنعام].
3-حكمة الله في خلقه ومخلوقاته
وقال تعالى : وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا (ص)
قال الطبري : فيتيقنوا بذلك أنه لا يخلق شيئا باطلا .
4-جكمة الله في الابتلاء
وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ (آل عمران )
قال الطبري : "ليبتليكم"، يقول: ليختبركم، فيتميز المنافق منكم من المخلص الصادق في إيمانه منكم.
وصل اللهم على نبيك محمد وآله وسلم تسليما كثيرا .