إنه لا جدوى من المحاولات الجزئية حين يفسد المجتمع كله وحين تطغى الجاهلية، وحين يقوم المجتمع على غير منهج الله وحين يتخذ له شريعة غير شريعة الله. فينبغي عندئذ أن تبدأ المحاولة من الأساس، وأن تنبت من الجذور وأن يكون الجهد والجهاد لتقرير سلطان الله في الأرض.. وحين يستقر هذا السلطان يصبح الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شيئاً يرتكن إلى أساس.
وهذا يحتاج إلى إيمان. وإلى إدراك لحقيقة هذا الإيمان ومجاله في نظام الحياة. فالإيمان على هذا المستوى هو الذي يجعل الاعتماد كله على الله والثقة كلها بنصرته للخير- مهما طال الطريق- واحتساب الأجر عنده، فلا ينتظر من ينهض لهذه المهمة جزاء في هذه الأرض، ولا تقديراً من المجتمع الضال، ولا نصرة من أهل الجاهلية في أي مكان!
إن كل النصوص القرآنية والنبوية التي ورد فيها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كانت تتحدث عن واجب المسلم في مجتمع مسلم. مجتمع يعترف ابتداء بسلطان الله، ويتحاكم إلى شريعته، مهما وجد فيه من طغيان الحكم، في بعض الأحيان، ومن شيوع الإثم في بعض الأحيان..
..
.
إنه لا جدوى من ضياع الجهد.. جهد الخيرين الصالحين من الناس.. في مقاومة المنكرات الجزئية، الناشئة بطبيعتها من المنكر الأول.. منكر الجرأة على الله وادعاء خصائص الألوهية، ورفض ألوهية الله، برفض شريعته للحياة.. لا جدوى من ضياع الجهد في مقاومة منكرات هي مقتضيات ذلك المنكر الأول وثمراته النكدة بلا جدال.
فماذا إذا كان المجتمع لا يعترف- ابتداء- بسلطان الله؟ ماذا إذا كان لا يتحاكم إلى شريعة الله؟ بل ماذا إذا كان يسخر ويهزأ ويستنكر وينكل بمن يدعوه إلى منهج الله؟
ألا يكون جهداً ضائعاً، وعبثاً هازلاً، أن تقوم في مثل هذا المجتمع لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، في جزئيات وجانبيات من شئون الحياة، تختلف عليها الموازين والقيم، وتتعارض فيها الآراء والأهواء؟! إنه لا بد من الاتفاق مبدئياً على حكم، وعلى ميزان، وعلى سلطان، وعلى جهة يرجع إليها المختلفون في الآراء والأهواء..
لا بد من الأمر بالمعروف الأكبر وهو الاعتراف بسلطان الله ومنهجه للحياة. والنهي عن المنكر الأكبر وهو رفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة.. وبعد إقامة الأساس يمكن أن يقام البنيان! فلتوفر الجهود المبعثرة إذن، ولتحشد كلها في جبهة واحدة، لإقامة الأساس الذي عليه وحده يقام البنيان!
وإن الإنسان ليرثي أحياناً ويعجب لأناس طيبين، ينفقون جهدهم في «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في الفروع بينما الأصل الذي تقوم عليه حياة المجتمع المسلم ويقوم عليه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مقطوع! فما غناء أن تنهى الناس عن أكل الحرام مثلاً في مجتمع يقوم اقتصاده كله على الربا فيستحيل ماله كله حراماً ولا يملك فرد فيه أن يأكل من حلال.. لأن نظامه الاجتماعي والاقتصادي كله لا يقوم على شريعة الله. لأنه ابتداء يرفض ألوهية الله برفض شريعته للحياة؟!
حقا إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له. لأن مجرد وجوده، في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين، وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لأحد من البشر بالحاكمية، لأن الحاكمية فيه لله وحده..
إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لا بد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله، القائمة على قاعدة العبودية للعباد، أن تحاول سحقه، دفاعا عن وجودها ذاته.
ولا بد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه..
هذه ملابسة لا بد منها. تولد مع ميلاد الإسلام ذاته. وهذه معركة مفروضة على الإسلام فرضا، ولا خيار له في خوضها. وهذا صراع طبيعي بين وجودين لا يمكن التعايش بينهما طويلا..
.وفي تفسير ظلال القرآن / سورة التوبة / قوله تعالى ( الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ)
وحين يقوم المجتمع المسلم الذي تحكمه شريعة الله، فيدين لله وحده ولا يدين لسواه، يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في داخل هذا المجتمع ويتناول ما يقع فيه من أخطاء وانحرافات عن منهج الله وشرعه.. ولكن حين لا يكون في الأرض مجتمع مسلم وذلك حين لا يكون في الأرض مجتمع الحاكمية فيه لله وحده، وشريعة الله وحدها هي الحاكمة فيه، فإن الأمر بالمعروف يجب أن يتجه أولاً إلى الأمر بالمعروف الأكبر، وهو تقرير ألوهية الله وحده سبحانه وتحقيق قيام المجتمع المسلم. والنهي عن المنكر يجب أن يتجه أولاً إلى النهي عن المنكر الأكبر. وهو حكم الطاغوت وتعبيد الناس لغير الله عن طريق حكمهم بغير شريعة الله..
والذين آمنوا بمحمد- صلى الله عليه وسلم- هاجروا وجاهدوا ابتداء لإقامة الدولة المسلمة الحاكمة بشريعة الله، وإقامة المجتمع المسلم المحكوم بهذه الشريعة. فلما تم لهم ذلك كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر في الفروع المتعلقة بالطاعات والمعاصي. ولم ينفقوا قط جهدهم، قبل قيام الدولة المسلمة والمجتمع المسلم في شيء من هذه التفريعات التي لا تنشأ إلا بعد قيام الأصل الأصيل! ومفهوم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يدرك وفق مقتضى الواقع. فلا يبدأ بالمعروف الفرعي والمنكر الفرعي قبل الانتهاء من المعروف الأكبر والمنكر الأكبر، كما وقع أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم!
«وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ» .. وهو القيام على حدود الله لتنفيذها في النفس وفي الناس. ومقاومة من يضيعها أو يعتدي عليها..
ولكن هذه كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لا يقام عليها إلا في مجتمع مسلم.
ولا مجتمع مسلم إلا المجتمع الذي تحكمه شريعة الله وحدها في أمره كله وإلا الذي يفرد الله سبحانه بالألوهية والربوبية والحاكمية والتشريع ويرفض حكم الطاغوت المتمثل في كل شرع لم يأذن به الله.. والجهد كله يجب أن ينفق ابتداء لإقامة هذا المجتمع. ومتى قام كان هناك مكان للحافظين لحدود الله فيه.. كما وقع كذلك أول مرة عند نشأة المجتمع المسلم! هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد الله معها بيعته.
سورة يوسف 4/2009 يقول سيد قطب : أما المجتمع الجاهلي الحاضر فهو مجتمع راكد، قائم على قيم لا علاقة لها بالإسلام، ولا بالقيم الإيمانية..
الجاهلية ليست فترة معينة من الزمان :
سورة الأحزاب/ يقول سيد قطب : والجاهلية ليست فترة معينة من الزمان. إنما هي حالة اجتماعية معينة، ذات تصورات معينة للحياة. ويمكن أن توجد هذه الحالة، وأن يوجد هذا التصور في أي زمان وفي أي مكان، فيكون دليلا على الجاهلية حيث كان! وبهذا المقياس نجد أننا نعيش الآن في فترة جاهلية عمياء، غليظة الحس، حيوانية التصور، هابطة في درك البشرية إلى حضيض مهين .
جواب ائمة المفسرين وعلماء المسلمين في قوله ( وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) والرد على الفكر القطبي :
قال فخر الدين الرازي في التفسير الكبير : الْمَقْصُودُ مِنْ هَذَا الْكَلَامِ تَهْدِيدُ الْيَهُودِ فِي إِقْدَامِهِمْ عَلَى تَحْرِيفِ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى فِي حَدِّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، يَعْنِي أَنَّهُمْ لَمَّا أَنْكَرُوا حُكْمَ اللَّه الْمَنْصُوصَ عَلَيْهِ فِي التَّوْرَاةِ وَقَالُوا: إِنَّهُ غَيْرُ وَاجِبٍ، فَهُمْ كَافِرُونَ عَلَى الْإِطْلَاقِ، لَا يَسْتَحِقُّونَ اسْمَ الْإِيمَانِ لَا بِمُوسَى وَالتَّوْرَاةِ وَلَا بِمُحَمَّدٍ وَالْقُرْآنِ.
وقيل: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ فَتَكُونُ مُخْتَصَّةً بِهِمْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ حَاوَلَ دَفْعَ هَذَا السُّؤَالِ فَقَالَ:الْمُرَادُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ سَبَقَ ذِكْرُهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ،
وقَالَ عَطَاءٌ: هُوَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ.
وَقَالَ طَاوُسٌ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ كَمَنْ يَكْفُرُ باللَّه وَالْيَوْمِ الْآخِرِ.
وقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه فَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَالَ الْكُفَّارِ، وَيُشْبِهُ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ الْكَافِرِينَ.
و قَالَ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ يَحْيَى الْكِنَانِيُّ: قَوْلُهُ (بِما أَنْزَلَ اللَّهُ ) صِيغَةُ عُمُومٍ، فَقَوْلُهُ (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ) مَعْنَاهُ مَنْ أَتَى بِضِدِّ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّه فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ
قال الرازي: وَهَذَا حَقٌّ لِأَنَّ الْكَافِرَ هُوَ الَّذِي أَتَى بِضِدِّ حُكْمِ اللَّه تَعَالَى فِي كُلِّ مَا أَنْزَلَ اللَّه، أَمَّا الْفَاسِقُ فَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِضِدِّ حُكْمِ اللَّه إِلَّا فِي الْقَلِيلِ، وَهُوَ الْعَمَلُ، أَمَّا فِي الِاعْتِقَادِ وَالْإِقْرَارِ فَهُوَ مُوَافِقٌ ،
و قَالَ عِكْرِمَةُ: قَوْلُهُ " وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ "، إِنَّمَا يَتَنَاوَلُ مَنْ أَنْكَرَ بِقَلْبِهِ وَجَحَدَ بِلِسَانِهِ، أَمَّا مَنْ عَرَفَ بِقَلْبِهِ كَوْنَهُ حُكْمَ اللَّه وَأَقَرَّ بِلِسَانِهِ كَوْنَهُ حُكْمَ اللَّه، إِلَّا أَنَّهُ أَتَى بِمَا يُضَادُّهُ فَهُوَ حَاكِمٌ بِمَا أَنْزَلَ اللَّه تَعَالَى، وَلَكِنَّهُ تَارِكٌ لَهُ، فَلَا يَلْزَمُ دُخُولُهُ تَحْتَ هَذِهِ الْآيَةِ، وَهَذَا هُوَ الْجَوَابُ الصَّحِيحُ واللَّه أعلم.
وقال ابن جرير الطبري : وأولى هذه الأقوال عندي بالصواب، قولُ من قال: نزلت هذه الآيات في كفّار أهل الكتاب، لأن ما قبلها وما بعدها من الآيات ففيهم نزلت، وهم المعنيُّون بها. وهذه الآيات سياقُ الخبر عنهم، فكونُها خبرًا عنهم أولى.
فإن قال قائل: فإن الله تعالى ذكره قد عمَّ بالخبر بذلك عن جميع منْ لم يحكم بما أنزل الله، فكيف جعلته خاصًّا؟
قيل: إن الله تعالى عَمَّ بالخبر بذلك عن قومٍ كانوا بحكم الله الذي حكم به في كتابه جاحدين، فأخبر عنهم أنهم بتركهم الحكمَ، على سبيل ما تركوه، كافرون ،
وكذلك القولُ في كل من لم يحكم بما أنزل الله جاحدًا به، هو بالله كافر، كما قال ابن عباس، لأنه بجحوده حكم الله بعدَ علمه أنه أنزله في كتابه، نظير جحوده نبوّة نبيّه بعد علمه أنه نبيٌّ.
وقال ابن الجوزي في زاد المسير : " وفي المراد بالكفر المذكور في الآية الأولى قولان :
أحدهما : أنه الكفر بالله تعالى
والثاني : أنه الكفر بذلك الحكم وليس بكفر ينقل عن الملة ،
وفصل الخطاب : أن من لم يحكم بما أنزل الله جاحدا له وهو يعلم أن الله أنزله كما فعلت اليهود فهو كافر ،
ومن لم يحكم به ميلا إلى الهوى من غير جحود فهو ظالم وفاسق وقد روى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس أنه قال من جحد ما أنزل الله فقد كفر ومن أقرّ به ولم يحكم به فهو فاسق وظالم " .
- ( قلت . مثل هذا كمثل ابليس حين أمره الله بالسجود ، ومثل آدم حين نهاه الله عن أكل الشجرة ، فكانت مخالفة ابليس كفرا حيث جحد أمر السجود ،
وكانت معصية لآدم حيث أقرّ بذنبه .
قال الله تعالى " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ " . وقال " وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا "
وقال تعالى " وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى "
و قال ابن كثير :وقوله: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ }
قال البراء بن عازب، وحذيفة بن اليمان، وابن عباس، وأبو مِجْلزٍ، وأبو رَجاء العُطارِدي، وعِكْرِمة، وعبيد الله بن عبد الله، والحسن البصري، وغيرهم: نزلت في أهل الكتاب ،
زاد الحسن البصري: وهي علينا واجبة.
وروى ابن أبي حاتم بسنده عن طاوس، عن ابن عباس في قوله: { وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ } قال :
ليس بالكفر الذي يذهبون إليه.
ورواه الحاكم في مستدركه، عن حديث سفيان بن عيينة، وقال: صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه.( وقال الذهبي : صحيح ) .
وقال القرطبي : قَوْلُهُ تَعَالَى: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ) و (الظَّالِمُونَ) و (الْفاسِقُونَ) نَزَلَتْ كُلُّهَا فِي الْكُفَّارِ، ثَبَتَ ذَلِكَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ الْبَرَاءِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ .( في تفسير الاية رقم 41)
وَعَلَى هَذَا الْمُعْظَمِ. فَأَمَّا الْمُسْلِمُ فَلَا يَكْفُرُ وَإِنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً.
وَقِيلَ: فِيهِ إِضْمَارٌ، أَيْ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ رَدًّا لِلْقُرْآنِ، وَجَحْدًا لِقَوْلِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فَهُوَ كَافِرٌ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، فَالْآيَةُ عَامَّةٌ عَلَى هَذَا.
قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنُ: هِيَ عَامَّةٌ فِي كُلِّ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْيَهُودِ وَالْكُفَّارِ أَيْ مُعْتَقِدًا ذَلِكَ وَمُسْتَحِلًّا لَهُ،
فَأَمَّا مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَهُوَ مُعْتَقِدٌ أَنَّهُ رَاكِبُ مُحَرَّمٍ فَهُوَ مِنْ فُسَّاقِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِنْ شَاءَ عَذَّبَهُ، وَإِنْ شَاءَ غَفَرَ لَهُ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي رِوَايَةٍ: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَقَدْ فَعَلَ فِعْلًا يُضَاهِي أَفْعَالَ الْكُفَّارِ.
وَقِيلَ : أَيْ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِجَمِيعِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَهُوَ كَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ حَكَمَ بِالتَّوْحِيدِ وَلَمْ يَحْكُمْ بِبَعْضِ الشَّرَائِعِ فَلَا يَدْخُلُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَالصَّحِيحُ الْأَوَّلُ، إِلَّا أَنَّ الشَّعْبِيَّ قَالَ: هِيَ فِي الْيَهُودِ خَاصَّةً، وَاخْتَارَهُ النَّحَّاسُ، قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ، مِنْهَا أَنَّ الْيَهُودَ قَدْ ذُكِرُوا قَبْلَ هَذَا فِي قَوْلِهِ:" لِلَّذِينَ هادُوا"، فَعَادَ الضَّمِيرُ عَلَيْهِمْ، وَمِنْهَا أَنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَلَا تَرَى أَنَّ بَعْدَهُ" وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ" فَهَذَا الضَّمِيرُ لِلْيَهُودِ بِإِجْمَاعٍ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الْيَهُودَ هُمُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الرَّجْمَ وَالْقِصَاصَ. فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: ( مَنْ ) إِذَا كَانَتْ لِلْمُجَازَاةِ فَهِيَ عَامَّةٌ إِلَّا أَنْ يَقَعَ دَلِيلٌ على تخصيصها؟
قيل له: ( فَمَنْ ) هُنَا بِمَعْنَى "الَّذِي" مَعَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ،
وَالتَّقْدِيرُ: وَالْيَهُودُ الَّذِينَ لَمْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ، فَهَذَا مِنْ أَحْسَنِ مَا قِيلَ فِي هَذَا،
وَيُرْوَى أَنَّ حُذَيْفَةَ سُئِلَ عَنْ هَذِهِ الْآيَاتِ أَهِيَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ؟
قَالَ: نَعَمْ هِيَ فِيهِمْ، وَلَتَسْلُكُنَّ سَبِيلَهُمْ حَذْوَ النَّعْلِ بِالنَّعْلِ.
وَقِيلَ:" الْكافِرُونَ" لِلْمُسْلِمِينَ، و" الظَّالِمُونَ" لليهود، و" الَفاسِقُونَ" لِلنَّصَارَى، وَهَذَا اخْتِيَارُ أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ، قَالَ: لِأَنَّهُ ظَاهِرُ الْآيَاتِ. وَهُوَ اخْتِيَارُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَابْنِ أَبِي زَائِدَةَ وابن شبرمة والشعبي أَيْضًا.
قَالَ طَاوُسٌ وَغَيْرُهُ: لَيْسَ بِكُفْرٍ يَنْقُلُ عن الملة، ولكنه كفر دون كفر .
وَهَذَا يَخْتَلِفُ إِنْ حَكَمَ بِمَا عِنْدَهُ عَلَى أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، فَهُوَ تَبْدِيلٌ لَهُ يُوجِبُ الْكُفْرَ،
وَإِنْ حَكَمَ بِهِ هَوًى وَمَعْصِيَةً فَهُوَ ذَنْبٌ تُدْرِكُهُ الْمَغْفِرَةُ عَلَى أَصْلِ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْغُفْرَانِ لِلْمُذْنِبِينَ.
قَالَ الْقُشَيْرِيُّ: وَمَذْهَبُ الْخَوَارِجِ أَنَّ مَنِ ارْتَشَى وَحَكَمَ بِغَيْرِ حُكْمِ اللَّهِ فَهُوَ كَافِرٌ، وَعُزِيَ هَذَا إِلَى الْحَسَنِ وَالسُّدِّيِّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ أَيْضًا: أَخَذَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْحُكَّامِ ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَلَّا يَتَّبِعُوا الْهَوَى، وَأَلَّا يَخْشَوُا النَّاسَ وَيَخْشَوْهُ، وَأَلَّا يَشْتَرُوا بآياته ثمنا قليلا. انتهى
ثانيا : كتاب معالم في الطريق
مقدمة..إن العالم يعيش اليوم كله في " جاهلية " من ناحية الأصل الذي تنبثق منه مقومات الحياة وأنظمتها. جاهلية لا تخفف منها شيئا هذه التيسيرات المادية الهائلة، وهذا الإبداع المادي الفائق!
هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض وعلى أخص خصائص الألوهية. . وهي الحاكمية. . إنها تسند الحاكمية إلى البشر، فتجعل بعضهم لبعض أربابا، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم، والشرائع والقوانين، والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيما لم يأذن به الله ..
فينشأ عن إنه لابد من طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق. تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعا. تمضي وهي تزاول نوعا من العزلة من جانب، ونوعا من الاتصال من الجانب الآخر بالجاهلية المحيطة. .
سيد قطب ينفي سلمية الدعوة النبوية ، ويزعم أن أساسها العنف والقتال ضد المخالفين
كتب سيد قطب في فصل الجهاد في سبيل الله: {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا} [الحج: 39 - 40]
وإذن فهو الشأن الدائم لا الحالة العارضة. الشأن الدائم أن لا يتعايش الحق والباطل في هذه الأرض.
الكف عن القتال ليس بسبب أن دعوة الاسلام سلمية بل لأسباب أخرى
يقول سيد قطب : إن الكف عن القتال في مكة لم يكن إلا مجرد مرحلة في خطة طويلة. كذلك كان الأمر أول العهد بالهجرة.
تفسير قوله تعالى: {ألم تر إلى الذين قيل لهم: كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة. .} [الآية 77 من سورة النساء]:
يقول سيد قطب في أسباب ولماذا كف الله يد المؤمنين عن القتال في مكة :
1- " ربما كان ذلك لأن الفترة المكية كانت فترة تربية وإعداد، في بيئة معينة، لقوم معينين، وسط ظروف معينة، ومن أهداف التربية والإعداد في مثل هذه البيئة بالذات، تربية نفس الفرد العربي على الصبر على ما لا يصبر عليه عادة من الضيم على شخصه أو على من يلوذون به، ليخلص من شخصه، ويتجرد من ذاته، ولا تعود ذاته ولا من يلوذون به محور الحياة في نظره ودافع الحركة في حياته. وتربيته كذلك على ضبط أعصابه، فلا يندفع لأول مؤثر - كما هي طبيعته - ولا يهتاج لأول مهيج، فيتم الاعتدال في طبيعته وحركته، وتربيته عل أن يتبع مجتمعا منظما له قيادة يرجع إليها في كل أمر من أمور حياته، ولا يتصرف إلا وفق ما تأمره به - مهما يكن مخالفا لمألوفه وعادته - وقد كان هذا هو حجر الأساس في إعداد شخصية العربي، لإنشاء " المجتمع المسلم " الخاضع لقيادة موجهة، المترقي المتحضر، غير الهمجي أو القبلي! "
2-" وربما كان ذلك أيضا، لأن الدعوة السلمية كانت أشد أثرا وأنفذ، في مثل بيئة قريش، ذات العنجهية والشرف، والتي قد يدفعها القتال معها - في مثل هذه المرحلة - إلى زيادة العناد، وإلى نشأة ثارات دموية جديدة كثارات العرب المعروفة التي أثارت حروب داحس والغبراء، وحرب البسوس، أعواما طويلة، تفانت فيها قبائل برمتها، وتكون هذه الثارات الجديدة مرتبطة في أذهانهم وذكرياتهم بالإسلام، فلا تهدأ بعد ذلك ابدا، ويتحول الإسلام من دعوة ودين إلى ثارات وذحول تنسى معها وجهته الأساسية، وهو مبدئه، فلا تذكر ابدا! "
3-" وربما كان ذلك أيضا، اجتنابا لإنشاء معركة ومقتلة في داخل كل بيت، فلم تكن هناك سلطة نظامية عامة، هي التي تعذب المؤمنين وتفتنهم، إنما كان ذلك موكولا إلى أولياء كل فرد يعذبونه ويفتنونه " ويؤدبونه "! ومعنى الإذن بالقتال - في مثل هذه البيئة - أن تقع معركة ومقتلة في كل بيت. . ثم يقال: هذا هو الإسلام! ولقد قيلت حتى والإسلام يأمر بالكف عن القتال! فقد كانت دعاية قريش في الموسم. في أواسط العرب القادمين للحج والتجارة: إن محمدا يفرق بين الوالد وولده، فوق تفريقه لقومه وعشيرته! فكيف لو كان كذلك يأمر الولد بقتل الوالد، والمولى بقتل الولي. . في كل بيت وفي كل محلة؟ "
4-" وربما كان ذلك أيضا لما يعلمه الله من أن كثيرين من المعاندين الذين يفتنون أوائل المسلمين عن دينهم، ويعذبونهم، هم بأنفسهم سيكونون جند الإسلام المخلص، بل من قادته. . ألم يكن عمر بن الخطاب من بين هؤلاء؟! "
5-" وربما كان ذلك أيضا، لأن النخوة العربية، في بيئة قبلية، من عاداتها أن تثور للمظلوم الذي يتحمل الأذى، ولا يتراجع! وبخاصة إذا كان واقعا على كرام الناس فيهم. . وقد وقعت ظواهر كثيرة تثبت صحة هذه النظرة - في هذه البيئة - فابن الدغنة لم يرض أن يترك أبا بكر - وهو رجل كريم - يهاجر ويخرج من مكة،
(صفحة 76)
قال : حقا إنه لم يكن بد لهذا الدين أن يدافع المهاجمين له، لأن مجرد وجوده في صورة إعلان عام لربوبية الله للعالمين وتحرير الإنسان من العبودية لغير الله، وتمثل هذا الوجود في تجمع تنظيمي حركي تحت قيادة جديدة غير قيادات الجاهلية، وميلاد مجتمع مستقل متميز لا يعترف لاحد من البشر بالحاكمية، لأن الحاكمية فيه لله وحده. . إن مجرد وجود هذا الدين في هذه الصورة لابد أن يدفع المجتمعات الجاهلية من حوله - القائمة على قاعدة العبودية للعباد - أن تحاول سحقه، دفاعا عن وجودها ذاته، ولابد أن يتحرك المجتمع الجديد للدفاع عن نفسه ..
سيد قطب ينكر أن قتال محمد وصحبه لم يكن للدفاع :
(صفحة 80)
.قال : ومن ثم يقوم المنافحون - المهزومون - عن سمعة الإسلام بنفي هذا الاتهام، فيلجاون إلى تلمس المبررات الدفاعية! ويغفلون عن طبيعة الإسلام ووظيفته، وحقه في " تحرير الإنسان " ابتداء.
دار واحدة للاسلام وما عداها دار حرب على الاسلام :
(صفحة 130)
وقال : وان هناك دارا واحدة هي دار الإسلام، تلك التي تقوم فيها الدولة المسلمة، فتهيمن عليها شريعة الله، وتقام فيها حدوده، ويتولى المسلمون فيها بعضهم بعضا، وما عداها فهو دار حرب، علاقة المسلم بها إما القتال، وإما المهادنة على عهد أمان، ولكنها ليست دار إسلام، ولا ولاء بين أهلها وبين المسلمين ..
سيد قطب يستنكر الجنسية في الاسلام مصري سعودي يمني شامي عراقي في فصل جنسية المسلم عقيدته
(صفحة 131)
بهذه النصاعة الكاملة، وبهذا الجزم القاطع جاء الإسلام. . جاء يرفع الإنسان ويخلصه من وشائج الأرض والطين، ومن وشائج اللحم والدم - وهي من وشائج الأرض والطين - فلا وطن للمسلم إلا الذي تقام فيه شريعة الله، فتقوم الروابط بينه وبين سكانه على اساس الارتباط في الله، ولا جنسية للمسلم إلا عقيدته التي تجعله عضوا في " الأمة المسلمة " في " دار الإسلام "، ولا قرابة للمسلم إلا تلك التي تنبثق من العقيدة في الله، فتصل الوشيجة بينه وبين أهله في الله
(صفحة 135)
وحين انبتّت وشيجة القرابة بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين عمه أبي لهب وابن عمه عمروا بن هشام " ابو جهل " وحين قاتل المهاجرون أهلهم وأقرباءهم وقتلوهم يوم بدر. . حينئذ اتصلت وشيجة العقيدة بين المهاجرين والأنصار، فإذا هم أهل وإخوة، واتصلت الوشيجة بين المسلمين العرب وإخوانهم: صهيب الرومي، وبلال الحبشي، وسلمان الفارسي، وتوارت عصبية القبيلة، وعصبية الجنس، وعصبية الأرض، وقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((دعوها فإنها منتنة)). . وقال لهم: ((ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية)). . فانتهى أمر هذا النتن. . نتن عصبية النسب. . وماتت هذه النعرة. . نعرة الجنس، واختفت تلك اللوثة. . لوثة القوم، واستروح البشر أرج الآفاق العليا، بعيدا عن نتن اللحم والدم، ولوثة الطين والأرض. .
وطن المسلم ليست الأرض
منذ ذلك اليوم لم يعد وطن المسلم هو الأرض، إنما عاد وطنه هو " دار الإسلام " الدار التي تسيطر عليها عقيدته وتحكم فيها شريعة الله وحدها، الدار التي يأوي إليها ويدافع عنها، ويستشهد لحمايتها ومد رقعتها. . وهي " دار الإسلام " لكل من يدين بالإسلام عقيدة ويرتضي شريعته شريعة، وكذلك لكل من يرتضي شريعة الإسلام نظاما - ولو لم يكن مسلما - كاصحاب الديانات الكتابية الذين يعيشون في " دار الإسلام ". .
من هي دار الحرب ؟
والأرض التي لا يهيمن فيها الإسلام ولا تحكم فيها شريعته هي " دار الحرب " بالقياس إلى المسلم، وإلى الذمي المعاهد كذلك. . يحاربها المسلم ولو كان فيها مولده، وفيها قرابته من النسب وصهره، وفيها أمواله ومنافعه.
وكذلك حارب محمد صلى الله عليه وسلم مكة وهي مسقط رأسه، وفيها عشيرته وأهله، وفيها داره ودور صحابته وأموالهم التي تركوها، فلم تصبح دار إسلام له ولأمته إلا حين دانت للإسلام وطبقت فيها شريعته.
هذا هو الإسلام. . هذا هو وحده. . فالإسلام ليس كلمة تقال باللسان، ولا ميلادا في أرض عليها لافتة إسلامية وعنوان إسلامي! ولا وراثة مولد في بيت ابواه مسلمان.
{فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في انفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما} [النساء: 65]
هذا هو وحده الإسلام، وهذه وحدها دار الإسلام. . لا الأرض ولا الجنس ولا النسب والا الصهر ولا القبلية ولا العشيرة.
لقد أطلق الإسلام البشر من اللصوق بالطين لبيتطلعوا إلى السماء، وأطلقهم من قيد الدم. . قيد البهيمة. . ليرتفعوا في عليين.
سيد قطب يختم كتاب معالم في الطريق بقصة أصحاب الأخدود ( هذا هو الطريق)وهذا يوضح فكرته أنه وهو أصحابه مثل المؤمنين الذي قتلوا من أجل التوحيد وقتلهم الكفار
كتب سيد قطب : {والسماء ذات البروج * واليوم المشهود * وشاهد ومشهود * قتل أصحاب الأخدود * النار ذات الوقود * إذ هم عليها قعود * وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود * وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا بالله العزيز الحميد * الذي له ملك السموات والأرض والله على كل شئ شهيد * إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم ولهم عذاب الحريق * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار ذلك الفوز الكبير * إن بطش ربك لشديد * إنه هو يبدئ ويعيد * وهو الغفور الودود * ذو العرش المجيد * فعال لما يريد. . .}
إن قصة أصحاب الأخدود - كما وردت في سورة البروج - حقيقة بأن يتأملها المؤمنون الداعون إلى الله في كل أرض وفي كل جيل. فالقرآن بإيرادها في هذا الأسلوب مع مقدمتها والتعقيبات عليها، والتقريرات والتوجيهات المصاحبة لها. . كان يخط بها خطوطاً عميقة في تصور طبيعة الدعوة إلى الله، ودور البشر فيها، واحتمالاتها المتوقعة في مجالها الواسع - وهو أوسع رقعة من الأرض، وأبعد مدى من الحياة - وكان يرسم للمؤمنين معالم الطريق، ويعدُّ نفوسهم لتلقي أي من هذه الاحتمالات التي يجري بها القدر المرسوم، وفق الحكمة المكنونة في غيب الله المستور.
إنها قصة فئة آمنت بربها، واستعلنت حقيقة إيمانها. ثم تعرضت للفتنة من أعداء جبارين بطاشين مستهترين بحق " الإنسان " في حرية الاعتقاد بالحق والإيمان
ثالثا : ظلال القرآن وكتب سيد قطب في ميزان القرضاوي ومحمد عمارة
مقال يوسف القرضاوي : علام حوكم سيد قطب .– موقع القرضاوي
«إنه يدخل في إطار المجتمع الجاهلي، تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها «مسلمة»... وهذه المجتمعات تدخل في هذا الإطار لا لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضًا، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها، فهي - وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله - تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله، فتدين بحاكمية غير الله، فتتلقى من هذا الحاكمية: نظامها، وشرائعها، وقيمها، وموازينها، وعاداتها وتقاليدها، وكل مقومات حياتها تقريبًا. إن موقف الإسلام من هذه المجتمعات كلها يتحدد في عبارة واحدة: إنه يرفض الاعتراف بإسلامية هذه المجتمعات».( انظر: معالم في الطريق/ص: 101 - 103).
فإسلام هذه المجتمعات - عند سيد قطب - هو مجرد «زعم» لأنها - وإن لم تعبد غير الله - قد دانت في كل مناحي حياتها لحاكمية غير الحاكمية الإلهية - في النظم والشرائع والقيم والموازين والعادات والتقاليد، وكل مقومات حياتها تقريبًا!!
بل تجاوز سيد قطب مجازفة المودودي، عندما لم يكتف بالحكم بجاهلية «المجتمعات الإسلامية» و«دولها» و«تاريخها» و«ثقافتها» و«حضارتها» ... وإنما ذهب فأعلن «انقطاع الأمة الإسلامية عن الوجود منذ قرون»! ... وأن المهمة التي يدعو إليها، هي إيجاد الأمة والجماعة المسلمة من جديد!
ذهب سيد قطب - في المجازفة - إلى هذا المدى، فكتب يقول:
«إن وجود الأمة المسلمة يعتبر قد انقطع منذ قرون كثيرة... فالأمة المسلمة ليست «أرضًا» كان يعيش فيها الإسلام، وليست «قومًا» كان أجدادهم في عصر من عصور التاريخ يعيشون بالنظام الإسلامي... إنما «الأمة المسلمة»جماعة من البشر تنبثق حياتهم وتصوراتهم وأوضاعهم وأنظمتهم وقيمهم وموازينهم كلها من المنهج الإسلامي... هذه الأمة - بهذه المواصفات - قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعًا... ولذلك، فالمسألة في حقيقتها هي مسألة كفر وإيمان، مسألة شرك وتوحيد، مسألة جاهلية وإسلام، وهذا ما ينبغي أن يكون واضحًا... إن الناس ليسوا مسلمين - كما يدعون - وهو يحيون حياة الجاهلية... ليس هذا إسلامًا، وليس هؤلاء مسلمين، والدعوة اليوم إنما تقوم لترد هؤلاء الجاهليين إلى الإسلام، ولتجعل منهم مسلمين من جديد».(معالم في الطريق /ص: 8، 173).
هكذا حكم سيد قطب - يرحمه الله - على «الأمة» - وليس فقط على «الدول والمجتمعات والحضارة» - بالكفر، والشرك، والجاهلية... ونفى عن «الأمة» الإيمان، والتوحيد، والإسلام... «فالناس» - نَعَم «الناس» - عنده ليسوا مسلمين كما يدعون!... والمطلوب من الدعوة التي حدد منهاجها في «معالم في الطريق» هو رد هؤلاء الجاهليين إلى الإسلام، لنجعل منهم مسلمين من جديد!
ولقد مضى ليؤكد هذا الحكم الخطير على «الأمة» فقال:
«ينبغي أن يكون مفهومًا لأصحاب الدعوة الإسلامية، أنهم حين يدعون الناس لإعادة إنشاء هذا الدين، يجب أن يدعوهم أولًا إلى اعتناق العقيدة، حتى لو كانوا يدعون أنهم مسلمون، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم مسلمون! ... فإذا دخل في هذا الدين ... عصبة من الناس ... فهذه العصبة هي التي يطلق عليها اسم: «المجتمع المسلم»(معالم في الطريق ص :40)
قال د. محمد عمارة:وهذا المستوى من المجازفة في الغلو، غير مسبوق في تاريخ الصحوة الإسلامية الحديثة والمعاصرة على الإطلاق!. اهـ.
(من بحث للدكتور محمد عمارة ألقاه في «ندوة اقرأ» الإعلامية في رمضان (1424هـ) بمكة المكرمة بعنوان: «الخطاب الإعلامي الإسلامي المعاصر ودوره في مواجهة الأفكار المنحرفة المتطرفة باسم الدين) .
ثم ختم القرضاوي مقالته :
وأقول للدكتور عمارة: إن فكرة التكفير لمسلمي اليوم، لم ينفرد بها كتاب: «المعالم»، بل أصلها في «الظلال» وفي كتب أخرى، أهمها «العدالة» كما سنذكر ذلك في الملاحق، إن شاء الله.
****